الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
وفيه ثلاثة فصول وفيه طرفان الطرف الأول في الديار المصرية المقصد الأول في فضلها ومحاسنها أما فضلها فقد ورد في الكتاب والسنة ما يشهد لها بالفضيلة ويقضي لها بالفخر قال تعالى: وإما من الخصب وسعة الرزق بدليل قوله تعالى مخبراً عن قوم فرعون: وقال جل وعز: وقد ذكر الله تعالى اسمها في غير موضع من كتابه العزيز في ضمن قصص الأنبياء عليهم السلام فقال تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام: قال القضاعي: وكذلك قراءة من قرأ: وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم ستفتحون بلاداً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لأهلها نسباً وصهراً " أراد بالنسب هاجر أم إسماعيل عليه السلام وكان بعض ملوك مصر قد وهبها لزوجته سارة وأراد بالصهر مارية أم إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم كان المقوقس قد أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة هديته. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا بها جنداً كثيفاً فذاك خير جند الأرض قيل: ولم ذاك يا رسول الله قال: لأنهم في رباطٍ إلى يوم القيامة ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مصر أطيب الأرضين تراباً وعجمها أكرم العجم نصاباً ". ويقال في التوراة: " مصر خزائن الله فمن أرادها بسوء قصمه الله ". وقال عمر بن العاص رضي الله عنه " ولاية مصر جامعةً تعدل الخلافة ". ومن كلام كعب الأحبار: " مصر بلد معافىً من الفتن فمن أرادها بسوء كبه الله على وجهه ". ووصفها الكندي فقال: " جبلها مقدس ونيلها مبارك وبها الطور الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام ". قال كعب الأحبار: " كلم الله تعالى موسى من الطور إلى طوى " وفي التوراة: " وادٍ مقدس أفيح " يريد وادي موسى عليه السلام. ودخلها جماعة من الأنبياء عليهم السلام منهم إبراهيم ويعقوب ويوسف وإخوته عليهم السلام. ونقل في الروض المعطار عن الجاحظ أن عيسى بن مريم عليه السلام ولد بها بكورة أهناس الآتي ذكرها في كور مصر المقدسة وأن نخلة مريم كانت بأهناس قائمة إلى زمانه. وذكر أيضاً أن موسى عليه السلام ولد بها بمدينة أسكر شرقي النيل وهيالآن قرية من الأعمال الأطفيحية الآتي ذكرها في أعمال الديار المصرية. وبها سجن يوسف عليه السلام بمدينة بوصير الخراب من الأعمال الجيزية على القرب من البدرشين. قال القضاعي: أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان وأن الوحي كان ينزل عليه به وسطحه معروف بإجابة الدعاء. سأل كافور الأخشيدي الأمام أبا بكر بن الحداد الفقيه الشافعي عن موضع يستجاب فيه الدعاء فأشار عليه بالدعاء على سطح هذا السجن. قال القضاعي: وعلى القرب منه مسجد موسى عليه السلام وهو مسجد مبارك. وبسفح المقطم بالقرافة الصغرى قبر يهوذا وروبيل من إخوة يوسف عليه السلام. وقد روي أنه دخلها من الصحابة رضوان الله عليهم ما يزيد على مائة رجل ودفن بقرافتها جماعة منهم فيما ذكره ابن عبد الحكم عن ابن لهيعة خمسة نفر وهم: عمرو بن العاص وعبد الله بن حذافة وأبو بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني وعبد الله بن الحارث الزبيدي وهو آخرهم موتاً. قال القضاعي: وذكر غير ابن لهيعة أن مسلمة بن مخلد الأنصاري أيضاً مات بها وهو أميرها. أما محاسنها فلا شك أن مصر مع ما اشتملت عليه من الفضائل وحفت به من المآثر أعظم الأقاليم خطراً وأجلها قدراً وأفخمها مملكة وأطيبها تربةً وأخفها ماءً وأخصبها زرعاً وأحسنها ثماراً وأعدلها هواءاً وألطفها ساكناً. ولذلك ترى الناس يرحلون إليها وفوداً ويفدون عليها من كل ناحية وقل أن يخرج منها من دخلها أو يرحل عنها من ولجها مع ما اشتملت عليه من حسن المنظر وبهجة الرونق لا سيما في زمن الربيع وما يبدو بها من الزروع التي تملأ العين وسامةً وحسناً وتروق صورةً ومعنًى. قال المسعودي: وصف الحكماء مصر فقالوا: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء وثلاثة أشهر مسكةٌ سوداء وثلاثة أشهر زمردةٌ خضراء وثلاثة أشهر سبيكةٌ حمراء. فاللؤلؤة البيضاء زمان النيل والمسكة السوداء زمان نضوب الماء عن أرضها والزمردة الخضراء زمان طلوع زروعها والسبيكة الحمراء زمان هيج الزرع واكتهاله. وقد قيل: لو ضرب بينها وبين غيرها من البلاد سورٌ لغني أهلها بها عما سواها ولما احتاجوا إلى غيرها من البلاد وناهيك ما أخبر الله تعالى به عن فرعون مع عتوه وتجبره وادعائه الربوبية بافتخاره بملكها بقوله: قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: وهي إقليم العجائب ومعدن الغرائب كان أهلها أهل ملك عظيم وعز قديم وإقليمها أحسن الأقاليم منظراً وأوسعها خيراً وفيها من الكنوز العظيمة ما لا يدخله الأحصاء حتى يقال إنه ما فيها موضع إلا وفيه كنز. قلت: أما ما ذكره أحمد بن يعقوب الكاتب في كتابه في مسالك والممالك من ذمه مصر بقوله: هي بين بحر رطبٍ عفنٍ كثير البخارات الرديئة يولد الأدواء ويفسد الغذاء وبين جبل وبر يابس صلدٍ لشدة يبسه لا تنبت فيه خضراء ولا تتفجر فيه عين ماء فكلام متعصبٍ خرق الأجماع وأتى من سخيف القول بما تنفر عنه القلوب وتمجه الأسماع وكفى به نقيصة أن ذم النيل الذي شهد العقل والنقل بتفضيله وغض من المقطم الذي وردت الأثار بتشريفه.
أما خواصها فمن أعظمها خطراً معدن الزمرد الذي لا نظير له في سائر أقطار الأرض وهو في مغارة في جبل على ثمانية أيام من مدينة قوص يوجد عروقاً خضراً في تطابيق حجر أبيض وأفضله الذبابي وهو أقل من القليل بل لا يكاد يوجد. ولم يزل هذا المعدن يستخرج منه الزمرد إلى أثناء الدولة الناصرية محمد بن قلاوون فأهمل أمره وترك. قال في مسالك الأبصار: وجميع ملوك الأرض وأهل الأفاق تستمد منه. وقد مر القول عليه في وأعظم خطراً منه وأرفع شأناً البلسان الذي يسميه العامة البلسم وهو نبات يزرع ببقعة مخصوصة بأرض المطرية من ضواحي القاهرة على القرب من عين شمسٍ ويسقى من بئر مخصوصة هناك يقال إن المسيح عليه السلام اغتسل بها حين قدمت به أمه إلى مصر والنصارى تزعم أنه حفرها بعقبه وهو طفلٌ حين وضعته أمه هناك. ومن خاصتها أن البلسان لا يعيش إلا بمائها ولا يوجد في بقعة من بقاع الأرض غير هذه البقعة. قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: وطول هذه الأرض ميلٌ في ميلٍ وشأنه أنه يفصد في شهر كيهك من شهور القبط ويجمع ما يسيل من دهنه ويصفى ويطبخ ويحمل إلى خزانة السلطان ثم ينقل منه قدر معلوم إلى قلاع الشام والبيمارستان ليستعمل في بعض الأدوية وملوك النصارى من الحبشة والروم والفرنج يستهدونه من صاحب مصر ويهادونه بسببه لما يعتقدونه فيه من أثر المسيح عليه السلام في البئر وله عليهم بذلك اليد الطولى والمنة العظمى لا يساويه عندهم ذهب ولا جوهر. قال في مسالك الأبصار: والنصارى كافةً تعتقد فيه ما تعتقد وترى أنه لا يتم تنصر نصراني حتى يوضع شيء من هذا الدهن في ماء المعمودية عند تغطيسه فيها. وبها معدن النطرون وهو منها في مكانين: أحدهما - بركة النطرون التي بالجبل الغربي غربي عمل البحيرة الآتي ذكره في جملة أعمالها المستقرة وهي من أعظم المعادن وأكثرها متحصلاً على حقارة النطرون وقلة ثمنه. قال في التعريف: لا يعرف في الدنيا بركة صغيرة يستغل منها نظيرها فإنها نحو مائة فدانٍ تغل نحو مائة ألف دينار. والثاني - مكان بالخطارة من الشرقية ولا يبلغ في الجودة مبلغ البركة الأولى ولا يبلغ في المتحصل قريباً من ذلك. وبها أيضاً معدن الشب على القرب من أسوان وهو من المعادن الكثيرة المتحصل أيضاً إلى غير ذلك من الخواص. وبها معدن النفط على ساحل بحر القلزم يسيل دهنه من أعلى جبلٍ قليلاً قليلاً وينزل إلى أسفله فيتحصل في دبارٍ قد وضعها له الأولون وتأتي العرب فتحمله إلى خزائن السلاح السلطانية. وأما عجائبها فكثيرة: منها جبل الطير شرقي النيل مقابل منية أبي خصيبٍ فيه صدع يأتي إليه جنس البواقير من الطير وهو المعروف بالبح في يوم من السنة فيضعون. مناقيرهم في ذلك الصدع واحداً بعد قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: قال أبو بكر الموصلي: سمعت من أعيان تلك البلاد أنه إذا كان العام مخصباً يقبض على طائرين وإن كان متوسطاً يقبض على طائر واحد وإن كان جدباً لم يقبض على شيء. ومنها مكان بالجبل الشرقي عن النيل على القرب من أنصنا به تلال رمل إذا صعد إلى أعلاها وكسح الرمل إلى أسافلها سمعت له أصوات كالرعد يسمع من البر الغربي من النيل. وقد أخبرني بعض أهل تلك البلاد أنه إذا كان الذي صعد على ذلك المكان جنباً أو كانوا جماعة فيهم جنب لم يسمع شيء من تلك الأصوات لو كسح الرمل. ومنها مكان بالجبل المذكور على القرب من إخميم به تلال رمل إذا كسحها الأنسان من أعلى إلى أسفل عادت إلى ما كانت عليه وارتفع الرمل من أسفلها إلى أعلاها. قال في الروض المعطار: وعلى النيل جبل يراه أهل تلك الناحية من انتضى سيفه وأولجه فيه وقبض على مقبضه بيديه جميعاً اضطرب السيف في يديه وارتعد فلا يقدر على إمساكه ولو كان أشد الناس وإذا حد بحجارة هذا الجبل سكين أو سيف لا يؤثر فيه حديد أبداً وجذب الأبر والمسال أشد جذباً من المغناطيس ولا يبطل فعلها بالثوم كما يبطل المغناطيس أما الحجر نفسه فإنه لا يجذب. قال القضاعي: وبجبل زماخير الساحرة يقال إن فيه خلقةً من الجبل ظاهرةً مشرفةً على النيل لا يصل إليها أحد يلوح فيها خط مخلوق " باسمك اللهم ". وعلى القرب من الطور عين ماء في أجمة رملٍ ينبع الماء من وسطها فواراتٍ لطيفةٍ وينبسط ماؤها حولها نحو الذراع ثم يغوص في الرمل فلا يظهر له أثر ولا يعرف أحد إلى أين يذهب وهي على ذلك مدى الدهور والأيام لا ينقطع نبعها ولا يجتمع ماؤها في مكان يدركه البصر وعجائبها أكثر من أن تذكر.
فاعلم أن ابتداءه من أول الخراب الذي هو جنوبي خط الأستواء المقدم ذكره ولذلك عسر الوقوف على حقيقة خبره. وقد ذكر الحكماء أنه ينحدر من جبل القمر إما بفتح القاف والميم كما هو المشهور وإما بضم وسكون الميم كما نقله في تقويم البلدان عن ضبط ياقوت في المشترك وابن سعيد في معجمه. قال في رسم المعمور: وطرفه الغربي عند طول ست وأربعين ونصف وعرض إحدى عشرة ونصف في الجنوب وطرفه الشرقي حيث الطول إحدى وستون درجةً ونصف والعرض بحاله. قال في الرسم: ولونه أحمر. وذكر الطوسيّ أنهم شاهدوه علىى بعدٍ ولونه أبيض لما غلب عليه من الثلج. واعترضه في تقويم البلدان بأن عرض إحدى عشرة في غاية الحرارة لا سيّما في الجنوب لحضيض الشمس. قال بطليموس: والنيل ينحدر من الجبل المذكور من عشرة مسيلات بين كل مسيلين منها درجة في الطول المقدّم بيانه والغربيّ منها وهو الأوّل عند طلوع ثمان وأربعين درجة والثاني عند طلوع تسع وأربعين وعلى ذلك حتّى يكون العاشر منها عند طلوع سبع وخمسين كل مسيل منها نهر ثم تجتمع العشرة وتصب في بطيحتين كلّ خمسةٍ منها تصب في بطيحة ثم يخرج من كل واحدة من البطيحتين أربعة أنهار ثم تتفرّع إلى ستة أنهار وتسير الستة في جهة الشمال حتّى تصب في بحيرة مدوّرة عند خط الأستواء تعرف ببحيرة كوري فيفترق النيل منها ثلاث فرق ففرقة تأخذ شرقاً وتذهب إلى مقدشو من بلاد الحبشة المسلمين على ساحل البحر الهنديّ مقابل بلاد اليمن. وفرقة تأخذ غرباً وتذهب إلى التّكرور وغانة من مملكة مالي من بلاد السّودان وتمرّ حتّى تصب في البحر المحيط الغربيّ عند جزيرة أوليل وتسمّى نيل السودان وفرقة تأخذ شمالاً - وهي نيل مصر - فيمر في الشّمال على بلاد زغاوة وهي أوّل ما يلقى من بلاد السودان. ثم يمر على بلاد النّوبة حتّى ينتهي إلى مدينتها دنقلة الآتي ذكرها في الكلام على ممالك السّودان. ثم يمرّ شمالاً بميلة إلى الغرب إلى طول إحدى وخمسين وعرض سبع عشرة على حاله. ثم يمرّ مغرّباً بميلة قليلة إلى الشّمال إلى طول اثنتين وثلاثين وعرض تسع عشرة. ثم يرجع مشرّقاً إلى طول إحدى وخمسين. ثم يمرّ في الشمال إلى الجنادل وهو الجبل الذي ينحدر عليه النيل بين منتهى مراكب النّوبة في انحدارها ومراكب مصر في صعودها حيث الطول ست وخمسون درجة والعرض اثنتان وعشرون درجة. ثم يمرّ شمالاً إلى مدينة أسوان الآتي ذكرها في أعمال الدّيار المصرية على القرب من الجنادل المقدّمة الذكر. ويمرّ شمالاً بميلة إلى الغرب إلى طول ثلاث وخمسين وعرض أربع وعشرين ثم يشرق إلى طول خمس وخمسين. ويمتدّ في جهة الشّمال أيضاً حتّى يصير بالقرب من قرية تسمّى شطّنوف من قرى مصر من عمل منوف فيفترق بفرقتين: فرقة شرقية وفرقة غربية. فأما الفرقة الشرقية فتمرّ في الشّمال حتّى تأتي على قرية تسمّى المنصورة من عمل المرتاحية فتتشعب شعبتين وتمرّ الغربية منهما وهي العظمى إلى دمياط من شرقيها وتصب في بحر الروم حيث الطول ثلاث وخمسون درجة وخمسون دقيقة والعرض إحدى وثلاثون وخمس وعشرون دقيقة وتمر الشرقية منهما على أشموم طناح من غربيها حتّى تجاوز بلاد المنزلة وتصب في بحيرة شرقيّ دمياط حتّى بحيرة تنّيس حيث الطول أربع وخمسون درجة وثلاثون دقيقة. وأما الفرقة الغربية فتمر من شطّنوف المقدّم ذكرها حتّى تأتي بالقرب من قرية تسمى بأبي نشّابة من عمل البحيرة فتتشعب شعبتين الغربية منهما وهي العظمى تأخذ شمالاً بين عمل البحيرة من شرقيها وبين جزيرة بني نصر من غربيها والشرقية تأخذ شمالاً أيضاً بين جزيرة بني نصر من شرقيها وبين عمل الغربية من غربيها. ويسمّى هذا البحر بحر أبيار ويمر حتّى يلتقي مع الفرقة الغربية عند قرية تسمّى الفرستق من الغربية بالقرب من مدينة أبيار المنسوب إليها البحر المقدّم ذكره ويصير شعبة واحدة ويمرّ حتّى يصب في البحر الروميّ غربي قرية تسمّى رشيد حيث الطول ثلاث وخمسون والعرض إحدى وثلاثون. ومن هذه الفرقة يتفرّع خليج صغير يدخل إلى بحيرة نستروه الآتي ذكرها في جملة البحيرات ويتفرع من كل فرقة من هذه الفرق وما يليها من أعلى النيل خلجانٌ يأتي ذكر المشهور منها فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما زيادته ونقصه فقد اختلف في مدد زيادته فنقل المسعوديّ عن العرب أنه يستمد من الأنهار والعيون. ولذلك تغيض الأنهار والعيون عند زيادته. وإذا غاض زادت ويؤيده ما روى القضاعيّ بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: " إنّ نيل مصر سيّد الأنهار سخر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب أن يمدّه فأمدّته الأنهار بمائها وفجّر الله له الأرض عيوناً فانتهى جريه إلى ما أراد الله فأوحى الله إلى كل منها أن يرجع إلى عنصره ". و يقال عن أهل الهند: زيادته و نقصه بالسيول ويعرف ذلك بتوالي الأنواء و كثرة الأمطار وركود السحاب. و قالت القبط: زيادته من عيون في شاطئه رآها من سافر و لحق بأعاليه ويؤيده ما رواه القضاعي بسنده إلى يزيد بن أبي حبيب " أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لكعب الأحبار أسألك بالله! هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز و جل خبراً قال: إي و الله! إن الله عز و جل يوحي إليه في كل عام مرتين يوحي إليه عند خروجه فيقول إن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك فيقول: يا نيل إن الله يأمرك أن تنزل فينزل ". و لا شك أن جميع الأقوال المتقدّمة فرع لهذا القول وهو أصل لجميعها. و بكل حال فإنه يبدأ بالزيارة في الخامس من بؤنه من شهور القبط. وفي ليلة الثاني عشر منه يوزن الطّين ويعتبر به زيادة النيل بما أجرى الله تعالى العادة به بأن يوزن الطين الجاف الذي يعلوه ماء النيل زنة ستة عشر درهماً على التحرير ويرفع في ورقة أو نحوها ويوضع في صندوق أو غير ذلك ثم يوزن عند طلوع الشمس فمهما زاد اعتبرت زيادته كل حبة خروب بزيادة ذراع على الستة عشر درهماً. وفي السادس والعشرين منه يؤخذ قاع البحر وتقاس عليه قاعدة المقياس التي تبنى عليها الزيادة. وفي السابع والعشرين ينادى عليه بالزيادة ويحسب كل ذراع ثمانية وعشرين أصبعاً إلى أن يكمل اثني عشر ذراعاً فيحسب كل ذراع أربعماً وعشرين أصبعاً فإذا وفى ستة عشر ذراعاً وهو المعبر عنه بماء السلطان كسر خليج القاهرة وهو يوم مشهود وموسمٌ معدود ليس له نظير في الدنيا وفيه تكتب البشارات بوفاء النيل إلى سائر أقطار المملكة وتسير بها البرد ويكون وفاؤه في الغالب في مسرى من شهور القبط وفيها جل زيادته. وفي النيروز وهو أول يوم من توت يكثر قطع الخلجان والترع عليه وربما اضطرب لذلك ثم عاد. وفي عيد الصليب وهو السابع عشر من توت المذكور يقطع عليه غالب بقية الترع. وقد حكى القضاعي عن ابن عفير وغيره من القبط المتقدمين أنه إذا كان الماء في اثني عشر يوماً من مسرى النيل اثني عشر ذراعاً فهي سنة ماء والأ فالماء ناقص وإذا تم الماء ستة عشر ذراعاً قبل النيروز فالماء يتم ثم غالب وفائه يكون في النصف الأول من مسرى وربما وفى في النصف الثاني منها وقد يتأخر عن ذلك. وفي الثامن من بابه يكون نهاية زيادته. ورأيت في تاريخ النيل أنه تأخر وفاؤه في سنة ثمان وسبعمائة إلى تاسع عشر بابه فوفى ستة عشر ذراعاً وزاد أصبعين بعد ذلك في يومين: كل يوم أصبع بعد أن استسقى الناس أربع مرات وهذا مما لم نسمع بمثله في دهر من الدهور. وقد جرت عادته أنه من حين ابتداء النداء بزيادته في السابع والعشرين من بؤنه إلى آخر أبيب تكون زيادته خفيفة ما بين أصبعين فما حولهما إلى نحو العشرة وربما زاد على ذلك. فإذا دخلت مسرى اشتدت زيادته وقويت فيزيد العشرة فما فوقها وربما زاد دون ذلك ومن العجيب أنه يزيد في يوم الوفاء سبعين أصبعاً مثلاً ثم يزيد في صبيحة يوم الوفاء أصبعين فما حولهما ويتم ذلك. وله في آخر بابه زيادة قليلة يعبر عنها بصبة بابه لما ينصب إلى النيل من ماء الأملاق. وقد ذكر عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم وغيره: أنه لما فتح المسلمون مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل شهر بؤنة فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنةً لا يجري إلا بها وهو أنه إذا كان اثنا عشر من هذا الشهر عمدنا إلى جاريةٍ بكرٍ من أبويها فأرضيناهما فيها وزيناها بأفضل الزينة وألقيناها فيه. فقال: هذا مما لا يكون في الأسلام فأقاموا أبيب ومسرى وهو لا يزيد قليلاً ولا كثيراً فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرفه ذلك فكتب إليه أن أصبت وكتب رقعةٌ إلى النيل فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر. أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك. وبعث بها إليه فألقاها في النيل وقد تهيأ أهل مصر للخروج منها فأصبحوا يوم الصليب ويروى أنه وقع مثل ذلك في زمن موسى عليه السلام وهو أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء فرغبوا إلى موسى فدعا لهم بإجراء لهم بإجراء النيل رجاء أن يؤمنوا فأصبحوا وقد أجراه الله في تلك الليلة ستة عشر ذراعاً. ورأيت في تاريخ النيل المتقدم ذكره: أنه في زمن المستنصر أحد خلفاء الفاطميين بمصر مكث النيل سنتين لم يطلع وطلع في السنة الثالثة وأقام إلى الخامسة لم ينزل ثم نزل في وقته ونضب الماء عن الأرض فلم يوجد من يزرعها لقلة ثم طلع في السنة السادسة وأقام حتى فرغت السابعة ولم يبق إلا صبابة من الناس ولم يبق في الأقاليم ما يمشي على أربع غير حمار يركبه الخليفة المستنصر وأنه في ست عشرة ذراعاً في ليلة واحدة بعد أن كان يخاض من بر إلى بر وأقل ما انتهى إليه قاع النيل في النقص ذراع واحد وعشرة أصابع ووقع ذلك من سنة الهجرة وإلى آخر الثمانمائة مرتين فقط: المرة الأولى - في سنة خمس وستين ومائة من الهجرة. وبلغ النيل فيها أربع عشرة ذراعاً وأربعة عشر أصبعاً. والمرة الثانية - في سنة خمس وثمانين وأربعمائة. وبلغ فيها سبع عشرة ذراعاً وخمسة أصابع. وقد وقع مثل ذلك في زماننا في سنة ست وثمانمائة. وأغي ما انتهى إليه القاع في الزيادة مما رأيته مسطوراً إلى آخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة تسعة أذرع. وأقل ما بلغ النقص في نهاية الزيادة اثنا عشر ذراعاً وأصبعان وذلك في سنة أربع وعشرين وأربعمائة وأغي ما كان إليه في الزمن المتقدم ثمانية عشر ذراعاً حتى تعجب الناس من نيل بلغ تسع عشرة ذراعاً في زمن عمر بن عبد العزيز ثم انتهى في المائة السابعة إلى أن صار يجاوز العشرين في بعض الأحيان. ومن العجيب أنه في سنة تسع وسبعين وثلثمائة كان القاع على تسع أذرع ولم يوف بل بلغ خمس عشرة ذراعاً وخمس أصابع وفي سنين كثيرة كان القاع فيها دون الذراعين وجاوز الوفاء إلى ثماني عشرة ذراعاً فما دونها. ولا عبرة بقول المسعودي في مروج الذهب إن أقل ما يكون القاع ثلاثة أذرع وإنه في مثل تلك السنة يكون متقاصراً فقد تقدم ما يخالف ذلك قلت: وقد جرت عادة صاحب المقياس أنه يعتبر قياسه زمن الزيادة في كل يوم وقت العصر ثم يمادي عليه من الغد بتلك الزيادة أصابع من غير تصريح بذرع إلا أنه يكتب في كل يوم رقاعاً لأعيان الدولة من أرباب السيوف والأقلام كأرباب الوظائف من الأمراء وقضاة القضاة من المذاهب الأربعة وكاتب السر وناظر الخاص وناظر الجيش والمحتسب ومن في معناهم فيذكر زيادته في ذلك اليوم من الشهر العربي وموافقه من القبطي من الأصابع وما صار إليه من الأذرع ويذكر بعد ذلك ما كانت زيادته في العام الماضي في ذلك اليوم من الأصابع وما صار إليه من الأذرع والبعادة بينهما بزيادة أو نقص ولا يطلع على ذلك عوام الناس ورعاعهم فإذا وفى ستة عشرة ذراعاً صرح في المناداة في كل يوم بما زاد من الأصابع وما صار إليه من الأذرع ويصير ذلك مشاعاً عند كل أحد. وأما مقاييسه فقد ذكر إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب العجائب أن أول من وضع مقياساً خصليم السابع من ملوك مصر بعد الطوفان: صنع بركة لطيفة وركب عليها صورتي عقابٍ من نحاسٍ: ذكر وأنثى يجتمع عندها كهنتهم وعلماؤهم في يوم مخصوص من السنة ويتكلمون بكلام فيصفر أحد العقابين. فإن صفر الذكر استبشروا بزيادة النيل وإن صفرت الأنثى استشعروا عدم زيادته فهيأوا ما يحتاجون إليه من الطعام لتلك السنة. قل المسعودي: وقد سمعت جماعة من أهل الخبرة يقولون: إن يوسف عليه السلام حين بنى الأهرام اتخذ مقياساً لمعرفة زيادة النيل ونقصانه. قال القضاعي: وذلك بمدينة منف وقيل: إن النيل كان يقاس بأرض يقال لها علوة إلى أن بني قلت: وموضع المقياس بمنف إلىالآن معروف على القرب من الأهرام اليوسيفية من جهة البلدة المعروفة بالبدرشين وقيل كانوا يقيسونه بالرصاصة. قال المسعودي: ووضعت دلوكة العجوز ملكة مصر بعد فرعون مقياساً بأنصنا صغير الأذرع ووضعت مقياساً آخر بإخميم ووضعت الروم مقياساً بقصر الشمع. قال القضاعي: وكان المقياس قبل الفتح بقيسارية الأكسية بالفسطاط إلى أن ابتنى المسلمون أبنيتهم بين الحصن والبحر ثم جاء الأسلام وفتحت مصر والمقياس بمنف. كان النيل يقاس بمنف ويدخل القيّاس إلى الفسطاط فينادي به ثم بنى عمرو بن العاص مقياساً بأسوان ثم بنى مقياساً بدندرة ثم بنى في أيام معاوية مقياساً بأنصنا. فلما ولي عبد العزيز بن مروان مصر بنى مقياساً صغير الأذرع بحلوان من ضواحي الفسطاط ثم لما ولي أسامة بن زيد التّنوحي بنى مقياساً في جزيرة الصّناعة المعروفةالآن بالروضة بأمر سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية سنة سبع وتسعين من الهجرة وهو أكبرها ذرعاً ثم بنى المتوكّل مقياساً أسفل الأرض بالجزيرة المذكورة في سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهو المعمول عليه إلى زماننا هذا. وكانت النصارى تتولّى قياسه فعزلهم المتوكل عنه ورتّب فيه أبا الردّاد عبد الله بن عبد السلام بن أبي الردّاد المؤدّب وكان رجلاً صالحاً فاستقرّ قياسه في بنيه إلىالآن ثم أصلحه أحمد بن طولون في سنة تسع وخمسين ومائتين. ثم كل ذراع يعتبر بثمانية وعشرين أصبعاً إلى تمام اثنتي عشرة ذراعاً ثم يكون كل ذراع أربعةً وعشرين أصبعاً فلما أرادوا وضعه على ستة عشر ذراعاً وزعوا الذراعين الزائدين وهما ثمانية وأربعون أصبعاً على اثني عشر ذراعاً لكل ذراع منها أربعة أصابع فصار كل ذراع ثمانية وعشرين أصبعاً وبقي الزائد على ذلك كل ذراع أربعة وعشرون أصبعاً. قال القضاعي: وكان سبب ذلك فيما ذكره الحسن بن محمد بن عبد المنعم في رسالة له أن المسلمين لما فتحوا مصر عرض على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يلقاه أهلها من الغلاء عند وقوف النيل في حدّ المقياس لهم فضلاً عن تقاصره ويدعوهم ذلك إلى الأحتكار والأحتكار يدعوهم إلى زيادة الأسعار فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يسأله عن حقيقة ذلك فأجابه: إني وجدت ما تروى به مصر حتّى لا يقحط أهلها أربع عشرة ذراعاً والحد الذي يروى منه سائرها حتّى يفضل عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ست عشرة ذراعاً والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان في الظمأ والأستبحار اثنتا عشرة ذراعاً في النقصان وثماني عشرة ذراعاً في الزيادة. فاستشار عمر رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه في ذلك فأشار بأن يكتب إليه أن يبني مقياساً وأن يفضّ ذراعين على اثنتي عشرة ذراعاً ويبقى ما بعدهما على الأصل. قال القضاعي: وفي هذا نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك أن المقاييس القديمة الصعيدية من أولها إلى آخرها أربعة وعشرون أصبعاً كل ذراع بغير زيادة على ذلك. قال المسعودي: فإذا تم النيل خمس عشر ذراعاً ودخل في ست عشرة كان فيه صلاح لبعض الناس ولا يستسقى فيه وكان فيه نقص من خراج السلطان وإذا انتهت الزيادة إلى ست عشرة ذراعاً ففيه تمام خراج السلطان وأخصب الناس وفيه ظمأ ربع البلد وهو ضار للبهائم لعدم المرعى. قال: وأتم الزيادات العامة النافعة للبلد كله سبع عشرة ذراعاً وذلك كفافها وري جميع أرضها. وإذا زاد على السبع عشرة ذراعاً وبلغ ثماني عشرة استبحر من مصر الربع وفي ذلك ضرر لبعض الضياع. قال: وذلك أكثر الزيادات. قلت: هذا كما كان عليه الحال في زمانه وما في قبله وكان الحال جارياً على ما ذكره في غالب السنين إلى ما بعد السبعمائة. أما في زماننا فقد علت الأرض مما يرسب عليها من الطين المحمول مع الماء في كل سنة وضعفت الجسور وصار النيل بحكمة الله تعالى إلى ثلاثة أقسام: متقاصرة وهي ست عشرة ذراعاً فما حولها ومتوسطة وهي سبع عشرة ذراعاً إلى ثمان عشرة ذراعاً فما حولها وعالية وهي ما فوق ثمانية عشرة وربما زادت على العشرين. المقصد الرابع في ذكر خلجانها وخلجانها القديمة ستة خلجٍ الخليج الأول المنهى وهو الخليج الذي حفره يوسف الصديق عليه السلام ومخرجه بالقرب من دروة سربام من عمل الأشمونين. الآتي ذكرها وهي المعروفة بدروة الشريف ويأخذ شمالاً إلى مدينة البهنسي ثم إلى قرية اللاهون من عمل البهنسي ويمر في الجبل حتى يجاوزه إلى إقليم الفيوم ويمر بمدينته وينبث في نواحيه. وهذا النهر من غرائب أنهار الدنيا تجف فوهته في أيام نقص النيل وباقيه يجري في موضع ويجف في آخر إلى إقليم الفيوم فيجري شتاءً وصيفاً من أعين تتفجر منه ولا يحتاج إلى حفرٍ قط. ويقال: إن يوسف عليه السلام حفره بالوحي ومياهه منقسمة على استحقاق مقدرٍ كما في دمشق من البلاد الشامية. وقال في الروض المعطار: وكانت مقاسمه بحجر اللاهون على القرب من القرية المنسوبة إليه المتقدمة الذكر قال: وهو من عجائب الدنيا وهو شاذروان بين قبتين من أحكم صنعة مدرج على ستين درجة فيها فوارات في أعلاها وفي وسطها وفي أسفلها يسقي الأعلى الأرض العليا والأوسط الأرض الوسطى والأسفل الأرض السفلى بوزن وقدر معلوم. قال: ويقال إن يوسف عليه السلام عمله بالوحي وإن ملك مصر يومئذ لما عاينه قال هذا من ملكوت السماء. ويقال إنه عمل من الفضة والنحاس والرخام. قلت: قد ذهبت معالم هذا اللاهون وبقي بعض بنائه ونقلت المقاسم إلى مكان آخر بالفيوم تسقى الآن الأراضي على حكمها. ومن غرائب أمره أن به التماسيح التي لا تحصى كثرةً ولم يشتهر في زمن من الأزمان أنها آذت الخليج الثاني خليج القاهرة الذي يكسر سده يوم وفاء النيل حفره عمرو بن العاص وهو أمير مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. قال القضاعي: أمر بحفره عام الرمادة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وساقه إلى بحر القلزم فلم يتم عليه الحول حتى جرت فيه السفن وحمل فيها الزاد والأطعمة إلى مكة والمدينة ونفع الله بذلك أهل الحجاز. وذكر الكندي في كتاب الجند العربي أن حفره كان سنة ثلاث وعشرين من الهجرة وفرغ منه في ستة اشهر وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع. قال الكندي: ولم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه عمر بن عبد العزيز ثم أضاعته الولاة فترك وغلب عليه الرمل وصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية الطور والقلزم. وذكر ابن قديد: أن أبا جعفر المنصور أمر بسده حين خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ليقطع عنه الطعام. ولم يكن عليه قنطرة إلى أن بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة في سنة تسع وستين. وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب أنه انقطع جريان هذا الخيلج عن الإسكندرية إلى سنة اثنتين وثلاثين وثالثمائة لردم جميعها وصار شرب أهلها من الآبار. قال ابن عبد الظاهر: وليس لها أثر في هذا الزمان. قال: وإنما بنى السلطان الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب هاتين القنطرتين الموجودتين على بستان الخشاب وباب الخرق يعني قنطرة السد وقنطرة باب الخرق في سنة نيف وأربعين وستمائة. وذكر في موضع آخر من خططه أن القنطرة التي عليه خارج باب القنطرة بناها القائد جوهر سنة ستين وثلثمائة وقنطرة اللؤلؤة - وهي التي كانت بالقرب من ميدان القمح وبعضها باق إلى الآن - من بناء الفاطميين أيضاً واللؤلؤة التي تنسب هذه القنطرة إليها منظرة على بر الخليج القبلي بناها الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي كانت مستنزهاً لخلفاء الفاطميين ينزلون فيها في أيام النيل ويقيمون بها إلى آخر النيل. قلت: أما باقي القناطر التي على هذا الخليج: كقنطرة عمر شاه وقنطرة سنقر وقنطرة أمير حسين فكلها مستحدثة في الدولة التركية وغالبها في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون. قال ابن أبي المنصور في تاريخه: وأول من رتب حفره على الناس المأمون بن البطائحي وكذلك البساتين في دولة الأفضل وجعل عليه والياً بمفرده. الخليج الثالث خليج السردوس ويقال السردوسي بزيادة ياء في آخره وهو الذي حفره هامان لفرعون. قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: ويقال: إنه لما حفره سأله أهل البلاد أن يجريه إليهم على أن يجعلوا له على ذلك مالأ فتحصل له من ذلك مائة ألف دينار فحملها إلى فرعون فقال: ويحك! إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده ولا ينظر إلى ما في أيديهم وأمر برد المال إلى أربابه. قال: وكان هذا الخيلج أحد نزهات الدنيا يسار فيه يوماً بين بساتين مشتبكة وأشجار ملتفةٍ وفواكه دانية. قلت: أما الآن فقد ذهب ذلك وبطل الخليج وعوض عنه ببحر أبي المنجا الآتي ذكره. الخليج الرابع خليج الإسكندرية وهو خليج مخرجه من الفرقة الغربية من النيل عند قرية تسمى العطف تقابل فوة مدينة المزاحمتين ويميل غربا حتى يتصل بجدران الإسكندرية وتدخل منه قناةٌ تحت الأرض إلى داخلها ويتشعب منها شعبٌ كثيرة تدخل دورها وتخرج من دار إلى أخرى ويخالط آبارها فيحلو ماؤها وتملأ منها صهاريجها حينئذ فتمكث من السنة إلى السنة. وكانت فوهة هذا الخليج فيما تقدم جنوببي فوهته الآن عند قرية تسمى الظاهرية من عمل البحيرة وكان يمر على دمنهور مدينة البحيرة ثم نقل إلى مكانه الآن ويقال إن أرضه في القديم قال في تقويم البلدان: وهو من أحسن المنتزهات لأنه مخضر الجانبين بالبساتين وفيه يقول ظافر الحداد الشاعر السكندري: وعيشةٍ أهدت لعينك منظراً جاء السرور به لقلبك وافدا روضٌ كمخضر العذار وجدولٌ نقشت عليه يد الشمال مباردا والنخل كالغيد الحسان تزينت ولبس من أثمارهن قلائدا وقد ذكر السمعودي في مروج الذهب: أنه انقطع جريان هذا الخيلج عن الإسكندرية إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة لردم جميعها وصار شرب أهلها مكن الآبار. الخليج الخامس خليج سخا ويقال إن الذي حفره برصا: أحد ملوك مصر بعد الطوفان. الخليج السادس خليج دمياط ولم أقف على تفاصيل أحواله. بحر أبي المنجا أما بحر أبي المنجا فإنه وإن عظم شأنمه مستحدث حفره الأفضل بن أمير الجيوش وزير المستعلي بالله الفاطمي. قال ابن أبي المنصور في تاريخه: وكان سبب حفره أن البلاد الشرقية كانت جارية في ديوان الخلافة وكان معظمها لا يروى في أكثر السنين ولا يصل الماء إليها من خليج السردوس المتقدم ذكره أو من غيره من الأماكن البعيدة. وكان يشارف العمل يهودي اسمه أبو المنجا فرغب أهل البلاد إليه في فتح ترعة يصل الماء منها إليهم في ابتدائه فرفع الأمر إلى الأفضل فركب في النيل في ابتدائه في مركب رومي بحزمٍ من البوص في النيل وجعل يتبعها بمركبه إلى أن رماها النيل إلى فم ذلك البحر فحفر من هناك وابتدأ حفره يوم الثلاثاء السادس من شعبان سنة ست وخمسمائة وأقام الحفر فيه سنتين وغرم فيه مال كثير. وكان في كل سنة تظهر فائدته. ويتضاعف ارتفاع البلاد التي تحته وغلب عليه إضافته إلى أبي المنجا لتكلمه فيه. فلما عارض على الأفضل ما صرف عليه استعظمه وقال: غرمنا عليه هذا المال العظيم والاسم لأبي المنجا فسماه البحر الأفضلي فلم يتم له ذلك ولم يعرف إلا بأبي المنجا ثم سطى بأبي المنجا المذكور بعد ذلك ونفي إلى الإسكندرية. ولما ولي المأمون بن البطائحي الوزارة تحدث معه الأمراء في أن يتخذ لفتحه يوماً كفتح خليج القاهرة فابتنى عند سده منظرة متسعة ينزل فيها عند فتحه. قلت: وكانت فيه معدية يعدى فيها بين قليوب وبيسوس وكان يحصل للناس بيها مشقة عظيمة لكثرة المارين فعمر عليها الظاهر بيبرس رحمه الله قنطرةً عظيمة بحجر صلد من غرائب البناء تمر عليها الناس والدواب فحصل للناس بها الارتفاق العظيم وهي باقية على جدتها إلى زماننا. وكان سده يقطع في عيد الصليب في سابع عشر توت ثم استقر الحال على أن يقطع يوم النوروز في أول يوم من توت حرصاً على ري البلاد. وأما بقية خلج الديار المصرية المستحدثه وترعها بالوجهين: القبلي والبحري فأكثر من أن تحصر ولكل منها زمن معروف يقطع فيه.
وهي أربع بحيرات الأولى منها - بحيرة الفيوم ويعبر عنها بالبركة وهي بحيرة حلوةٌ بالقرب من الفيوم بين الشمال والغرب عنه على نحو نصف يوم يصب فيها فضلات مائة المنصب إليه من خليجه المنهى المتقدم ذكره وليس لها مصرفٌ تنصرف إليه لإحاطة الجبل بها ولذلك غلبت على كثير من قال في تقويم البلدان: وطولها شرقاً بغرب نحو يوم وبها أسماك كثيرة تتحصل من صيدها جملةٌ كثيرةٌ من المال وبها من آجام القصب والطرفاء والبردي ما يتحصل منه المال الكثير. الثانية - بحيرة بوقير بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر القاف وسكون الياء المثناة تحت وراء مهملة في الآخر وهي بحيرة ماء ملحٍ يخرج من البحر الرومي بين الإسكندرية ورشيد ولها خليج صغير مشتق من خليج الإسكندرية المتقدم ذكره يأتيها ماء النيل منه عند زيادته وبها من صيد السمك ما يتحصل منه المال الكثير وفيها من أنواع الطير كل غريب وبجوانبها الملاحات الكثيرة التي يحمل منها الملح إلى بلاد الفرنج وغيرها. قلت: وقد وقع للسلطان عماد الدين صاحب حماة رحمه الله وهمٌ فجعل هذه البحيرة هي بحيرة نستروه الآتي ذكرها على أن هذه البحيرة قد انقطع مددها من البحر الملح في زماننا بواسطة غلبة الرمل على أشتونها الموصل إليها الماء من بحر الروم فجفت وصارت سبخة طويلة عريضة ومات ما كان يصاد منها من السمك البوري وما يتحصل منها من الملح المنعقد بسواحلها وعاد على الإسكندرية بواسطة ذلك ضرر كبير لأنه كان الغالب على أهلها أكل السمك ويحصل لهم بالملح رفق كبير. الثالثة - بحيرة نستروه بفتح النون وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة فوق وضم الراء المهملة وسكون الواو وهاء في الآخر وهي بحيرة ماء ملح أيضاً بالقرب من البرلس في آخر بلاد الأعمال الغربية الآتي ذكرها متسعة الأرجاء إذا توسطها المركب لا ترى جوانبها لعظمها لبعد مركزها عن البر وبالقرب منها قرية تسمى نستروه وهي التي تضاف إليها وداخلها قرية أخرى تسمى سنجار لا زرع فيهما ولا نفع وليس بهما غير صيد السمك وهي الغاية القصوى فيما يتحصل من المال. قال صاحب حماة: يبلغ متحصل صيد سمكها في كل سنة فوق عشرين ألف دينار مصرية وليس يساويها بحيرة من البحيرات في ذلك. قلت: وأخبرني بعض مباشريها أنها في زماننا قد تميز متحصلها عن ذلك نحو مثله للاجتهاد في الصيد وكثرة الضبط وارتفاع السعر. الرابعة - بحيرة تنيس قال السمعاني بكسر التاء المثناة فوق والنون المشددة المكسورة ثم ياء مثناة تحت وسين مهملة في الآخر وهي بحيرةٌ متصلة بالبحر الرومي أيضاً بآخر عمل الدقهلية والمرتاحية الآتي ذكره وفيها مصب بحر أشموم المنفرق من الفرقة الشرقية من النيل ولذلك يعذب ماؤها في أيام زيادة النيل وبوسطها تنيس الآتي ذكرها في الكلام على الكور القديمة. قال صاحب الروض المعطار: طمى عليها البحر قبل الفتح الإسلامي بمائة سنة فغرقها وصارت بحيرة ويتصل بهذه البحيرة من جهة الغرب بحيرة دمياط وهما في الحقيقة كالبحيرة الواحدة.
اعلم أن وادي مصر يكتنفه جبلان شرقاً وغرباً يبتدئان من الجنادل المتقدمة الذكر فوق أسوان آخذين من جهة الشمال على تقارب بينهما بحيث يرى كل منهما من الآخر والنيل مار بين جنبتيهما. فأما الشرقي منهما فيمر بين النيل وبحر القلزم المتقدم الذكر حتى يجاوز الفسطاط فينعطف ويأخذ شرقاً حتى يأتي على آخر بحر القلزم من الشمال يرتفع في موضع وينخفض في آخر وفي أوائل هذا الجبل من جهة الجنوب على القرب من مدينة قوص معدن الزمرد المتقدم ذكره في خواص الديار المصرية في مغارة طويلة في قطعة جبل عالية تسمى قرشنده ليس هناك أعلى منها وعلى القرب من ذلك مقطع الرخام الملون من الأبيض والسماقي وسائر الألوان المستحسنة التي لا تساوى حسناً. ويسمى الجبل المطل منه على النيل مقابل المراغات من عمل إخميم جبل الساحرة وأظنه جبل زماخير الساحرة المتقدمة الذكر في عجائب الديار المصرية. ويسمى الجبل المطل منه على النيل مقابل مدينة منفلوط جبل أبي فيدة بفاء وياء مثناة تحت. ويسمى الجبل المطل منه على النيل مقابل منية بني خصيب من الأشمونين. جبل الطيلمون ويعرف بالآن بجبل الطير وقد تقدم ذكره في جملة عجائب الديار المصرية. ويسمى ما سامت الفسطاط والقرافة منه المقطم وربما أطلق المقطم على جميع المقطم وقد اختلف في سبب تسمية بذلك فقيل سمي باسم مقطم الكاهن كان مقيماً فيه لعمل الكيميا. وقال أبو عبد الله اليمني: سمي بالمقطم بن مصر بن بصير وكان عبداً صالحاً انفرد فيه لعبادة الله تعالى. وذكر الكندي في كتاب فضائل مصر ما يوافق ذلك: وهو أن عمرو بن العاص رضي الله عنه سار في سفح المقطم ومعه المقوقس فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام فلو شققنا في أسفله نهراً من النيل وغرسناه نخلاً فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر البلاد أشجاراً ونبتاً وفاكهة وكان ينزله المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام فلما كانت الليلة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام أوحى الله تعالى إلى الجبال: إني مكلم نبياً من أنبيائي على جبل منك فسمت الجبال كلها وتشامخت إلا جبل بيت المقدس فإنه هبط وتصاغر فأوحى الله تعالى إليه: لم فعلت ذلك وهو به أخبر فقال: إعظاماً وإجلالاً لك يا رب! فأمر الله تعالى الجبال أن يحيوه كل جبل مما عليه من النبت فجاد له المقطم بكل ما عليه من النبت حتى بقي كما ترى فأوحى الله تعالى إليه إني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غرس الجنة. وأنكر القضاعي وغيره أن يكون لمصر ولد اسمه المقطم وجعلوه مأخوذاً من القطم وهو القطع لكونه منقطع الشجر والنبات. قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: وفيه كنوز عظيمة وهياكل كثيرة وعجائب غريبة. ولملوك مصر فيه من الجواهر والذهب والفضة والأواني والآلات النفسية والتماثيل العجيبة وتراب الصنعة ما يخرج عن حد الإحصاء. قال في الروض المعطار: وإذا دبرت تربته حصل منها ذهب صالح. ويلي المقطم من جهة الشمال اليحاميم وهي الجبال المتفرقة المطلة على القاهرة من جانبها الشرقي وجبانتها. قال القضاعي: وقيل لها اليحاميم لاختلاف ألوانها واليحموم في كلام العرب: الأسود المظلم وفي شرقي المقطم على بحر القلزم طورسينا الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه وهو جبل مرتفع للغاية داخل في البحر. قال الأزهري: وسمي الطور بطور بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: ومن خاصته أنه كيفما كسر ظهر فيه صورة شجرة العليق وقد بني هناك ديرٌ بأعلى الجبل وغرس بواديه بساتين وأشجارٌ. وأما الغربي منهما فإنه يبتديء من الجنادل أيضاً ويمر في الشمال فيما ببين بلاد الصعيد والصحراء ثم فيما بين بلاد الصعيد والواحات ثم فيما بين بلاد الصعيد والفيوم حتى ينتهي إلى مقابل الفسطاط. وهناك موقع الهرمين العظيمين المقدم ذكرهما على القرب من بوصير ثم ينعطف ويأخذ غرباً بشمالٍ فيما بين بلاد ريف الوجه البحري والبرية حتى يجاوز بركة النطرون ويمضي إلى قريب من الإسكندرية. ويسمى سامت الواحات جبل جالوت نسبة إلى جالوت البربري. ويتصل به من جنوبي الواحات جبل اللازورد قيل إن معدن لازورد وإنه امتنع استخراجه لانقطاع العمارة هناك. في ذكر زروعها ورياحينها وفواكهها وأصناف المطعوم بها أما زروعها - فيزرع فيها من أنواع الحبوب المقتاتة وغيرها كالبر والشعير والذرة والأرز والباقلي والحمص والعدس والبسلا والجلبان واللوبيا والسمسم والقرطم والخشخاش والخروع والسلجم وبزر الكتان والبرسيم وغير ذلك. وبها قصب السكر في غاية الكثرة والبطيخ والقثاء على اختلاف أنواعها والملوخيا والقلقاس واللفت والباذنجان والدباء والهيلون والقنبيط وأنواع البقول المختلفة كالثوم والبصل والكراث والفجل وغيرها وعامة زرع حبوبها على النيل عند نزوله عن أرضها من أثناء بابه من شهور القبط إلى أثناء طوبه منها بحسب ما يقتضيه حال الزرع. وربما زرع فيها على السواقي والدواليب وأكثر ما يكون ذلك في بلاد الصعيد خصوصاً في سني الجدب ويزرع في الفيوم في غير زمن النيل على نهره المنهى المتقدم ذكره في جملة الأنهار. ولا زرع فيها على المطر إلا القليل النادر بأطراف البحيرة مما لا عبرة به على قلة المطر بها بل فقده بصعيدها. وأما رياحينها - ففيها الأس والورد والبنفسج والنرجس والياسمين والنسرين والبان واللينوفر وأزهار المحمضات والريحان الفارسي على اختلاف أنواعه والمنثور فيها بقلة وإنما كثر بالإسكندرية إلى غير ذلك من بقايا الأنواع التي يشق استيعابها. وأما فواكهها - ففيها الرطب والعنب والتين والرمان والخوخ والمشمش والقراصيا والبرقوق والتفاح والكمثرى والسفرجل بقلةٍ واللوز الأخضر والنبق والتوت والفرصاد والموز ولا يوجد فيها الجوز والفستق والبندق والإجاص إلا مجلوباً بعد جفافه وإن زرع بأرضها شيء من ذلك لم يفلح والزيتون فيها بقلةٍ ولا يستخرج منه زيت البتة وإنما يؤكل ملحاً. وفيها من المحمضات: الأترج والحماض والكباد والنارنج والليمون على اختلاف أنواعها. وأما أصناف المطعوم: ففيها ما يستطاب من الألبان والأجبان والعسل الذي لا يساوى حسناً ولا يشهبه غيره من سائر الأعسال والسكر الكثير: من المكرر والتبع والوسط والنبات. ومنها يجلب إلى أكثر البلاد. قال في مسالك البصار: وقد نسي به ما كان يذكر من سكر الأهواز. وبها من أنواع الحلوى والأشربة المتخذ ذلك من السكر والأشربة الفائقة ما لا يوجد في غيرها من الأقاليم. قلت: ومن محاسنها أن فاكهتها لا يدوم نوع منها في جميع السنة فيمل بل يأتي كل نوع منها في وقت دون وقت فتتشوف النفوس إلى طلبه ويكون لقدومه بهجة. ولا يعترض ذلك بدوام أكل الجنة فإن الجنة أكلها لا يمل بخلاف مآكل الدنيا. ولأهل الرفاهية بذلك فرحةٌ وتتغالى فيه ابتدائه مع أنه يجتمع في الحين الواحد من الفواكه والرياحين ما لايحتاج معه في زمنه إلى غيره. قال المهذب بن مماتي في قوانين الدواوين: بعثت غلاماً لي ليحضر من فكاهي القاهرة ما وجد بها من أنواع الفاكهة والرياحين فأحضر لي منها الورد والنرجس والبنفسج والياسمين والمنثور والمرسين والريحان والطلح والبلح والجمار والخيار والبطيخ الأخضر والباقلى والتفاح والفقوس والأترج والنارنج والأشباه والليمون والتمر هندي الأخضر والعنب والحصرم. وقال بعض الجوالين في الأفاق: طفت أكثر المعمور من الأرض فلم أر مثل ما بمصر من ماء طوبه ولبن أمشير وخروب برمهات وورد برموده ونبق بشنس وتين بؤنة وعسل أبيب وعنب مسرى ورطب توت ورمان بابه وموز هتور وسمك كيهك.
أما مواشيها - فمنها الإبل المستجادة والبقر العظيمات القدود والأغنام المستطابة اللحوم والخيول المسومة والبغال النفيسة والحمر الفارهة مما ليس له نظير في إقليم من الأقاليم ولا مصر من الأمصار. وأما وحوشها - ففي براريها: الغزلان والنعام والأرانب والثعالب والضباع والذئاب وغير ذلك. ويجلب إلى سلطانها الفيلة والزرافات وغيرها من الوحوش من البلاد القاصية والسباع من بلاد الشام من مملكته لتكون في إصطبلاته زينةً لمملكته. وأما طيورها - ففيها من الطيور الدواجن في البيوت: الدجاج والإوز والحمام ومن الطيور البرية: الصقر والعقاب والنسر والكركي واللغلغ والإوز التركي والمرزم والبجع والبلشون والحبرج والحجل والكروان والسماني والبلبل وسائر أنواع العصافير والأنواع المختلفة من طيور الماء. ويجلب إلى سلطانها سائر أنواع الجوارح الصائدة على اختلاف أجناسها من أقاصي البلدان ويقع التغالي في أثمانها للغاية القصوى على ما يأتي ذكره في الكلام على أوصافها إن شاء الله تعالى.
قد اضطربت عبارات المصنفين في المسالك والممالك في تحديدها والذي عليه الجمهور أن حدها الشمالي وهو المعبر عنه عند المصريين بالبحري يبتديء مما بين الزعقة ورفحٍ عند حدها من الشام والبحر شماله ويمتد غرباً على ساحل البحر المذكور حيث الشجرتان عند الشجرة التي يعلق فيها العوام الخرق وتقول هذه مفاتيح الرمل عند الكثب المجنبة عن البحر الرومي إلى رفح ثم إلى العريش آخذاً على الجفار إلى الفرما إلى الطينة إلى دمياط إلى ساحل رشيد إلى الإسكندرية وهي آخر العمارة بهذا الحد. ثم يأخذ على اللينونة على العميدين إلى برقة إلى العقبة الفاصلة بين الديار المصرية وإفريقية على ما تقدم ذكره في الكلام على سواحل البحر الرومي. وحدها الغربي - يبتديء من ساحل البحر الرومي حيث العقبة ويمتد جنوباً وأرض إفريقية غربيه على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان. وحدها الجنوبي - وهو المعبر عنه عند المصريين بالقبلي يبتديء من آخر هذا الحد بصحراء الحبشة ويمتد شرقاً وبلاد الروم من بلاد البرية جنوبيه حتى يأتي إلى أسوان ثم يمتد من أسوان شرقاً حتى ينتهي إلى بحر القلزم مقابل أسوان على خمس عشرة مرحلة منها وحدها الشرقي - يبتديء من آخر هذا الحد ويمتد شمالاً وبحر القلزم شرقيه إلى عيذاب إلى القصير إلى القلزم إلى السويس ثم يأخذ شرقاً عن بركة الغرندل التي أغرق الله تعالى فيها فرعون من بحر القلزم إلى تيه بني إسرائيل ثم يعطف شمالاً ويمر على أطراف الشام حتى ينحط على ما بين الزعقة ورفح ساحل البحر الرومي حيث وقعت البداءة. وهلى هذا التحديد جرى السلطان عماد الدين صاحب حماة في تقويم البلدان والمقر الشهابي بن فضل الله في التعريف إلا أنه في تقويم البلدان جعل ابتداء الحد الشمالي نفس رفح ونهاية الحد الغربي حدود بلاد النوبة وفي التعريف جعل ابتداء الحد الشمالي ما بين الزعقة ورفح ونهاية الحد الغربي صحراء بلاد الحبشة على ما تقدم في التحديد والأمر في ذلك قريب. وخالف في ذلك القضاعي فجعل ابتداء الحد الشمالي من العريش وليس فيه بعدٌ عن رفح بل في الآثار ما يدل عليه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وجعل الحد الجنوبي يقطع بحر القلزم وينتهي إلى ساحل الحجاز بالحوراء: أحد منازل طريق الحجاز من مصر والحد الشرقي يمتد على ساحل البحر الشرقي إلى مدين إلى أيلة إلى تيه بني إسرائيل إلى العريش فأدخل بحر القلزم من حد الحوراء إلى نهايته في الشمال وما على ساحله من بر الحجاز مما يسامت العريش كأيلة ومدين ونحوها في أرض مصر. قلت: وفيه نظر والظاهر ما تقدم لأن البر الشرقي من القلزم معدود من ساحل الحجاز من جملة جزيرة العرب وهي ناحية على انفرادها وكأن الذي حمل القضاعي على ذلك مسامته هذا الساحل لحدها بساحل البحر الرومي على ما تقدم. واعلم أن جميع المحددين لها وإن اختلفت عباراتهم في ابتداء الحد الشمالي الفاصل بينها وبين الشام هل هو من العريش أو من رفحٍ أو بين الزعقة ورفحٍ متفقون على أن ابتداء الحد حيث الشجرتان وكأنهما شجرتان قديمتان حدد في الأصل بهما. قال في التعريف: وما إخال الآن بقاء الشجرتين وإنما هو موضع الشجرة التي تعلق فيها العوام الخرق ويقولون هذه مفاتيح الرمل عند الكثب المجنبة عن البحر الرومي قريباً من الزعقة. قال: فأما الأشجار التي بالمكان المعروف الآن بالخروبة ويعرف قديماً بالعش فهي وإن عظمت محدثة من زمن من حدد الأقاليم وليست في موضع ما ذكروه. ثم لها طول وعرض فطولها ما بين جهتي الشمال والجنوب وعرضها ما بين جهتي المشرق والمغرب. وقد قيل: إن طولها مسيرة شهر وعرضها مسيرة شهر. وذكر القضاعي أن ما بين العريش إلى برقة أربعون ليلة.
أما ابتداء عمارتها - فقد ذكر المؤرخون أنها عمرت مرتين: المرة الأولى - قبل الطوفان وأول من عمرها قبل الطوفان نقراووس بن مصريم بن براجيل بن رزائيل بن غرباب بن آدم عليه السلام نزلها في سبعين رجلاً من بني غرباب جبابرة فعمرها. وهو الذي هندس نيلها وحفره حتى أجراه ووجه إلى البرية جماعةً هندسوه وأصلحوه وبنى المدن وأثار المعادن وعمل الطلمسات. المرة الثانية - بعد الطوفان وأول من عمرها بعد الطوفان مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام قدم إليها هو وأبوه بيصر في ثلاثين رجلاً من قومه حين قسم نوح الأرض بين بنيه فنزلوا بسفح المقطم ونقروا فيه منازل كبيرة نزلوا بها ثم ابتنوا مدينة منف وسكنوها على ما يأتي ذكره في الكلام على قواعد مصر القديمة إن شاء الله تعالى. قال ابن لهيعة: وكان نوح عليه السلام قد دعا لمصر أن يسكنه الله تعالى الأرض الطيبة المباركة التي هي أمن البلاد وغوث العباد ونهرها أفضل الأنهار ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده ويذللها لهم ويقويهم عليها. فسأله عنها فوصفها له وأخبره بها. وأما تسميتها مصر - فقيل: إن نقراووس بن مصريم أول ملوكها قبل الطوفان حين عمرها سماها باسم أبيه مصريم تبركاً وإن مصر بن بيصر إنما سمي باسمه. وأكثر المؤرخين على أنها سميت بمصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وعلى الوجهين تكون علماً منقولاً عن اسم رجل. وقال الجاحظ في رسالة له في مدح مصر: إنما سميت مصر بمصرٍ لمصير الناس إلياها. قلت: ويجوز أن تكون سميت مصر لكونها حداً فاصلاً بين بلاد المشرق والمغرب إذ المصر في أصل لغة العرب اسم للحد بين الأرضين كما قاله القضاعي ومنه قول أهل هجر: اشتريت الدار بمصورها أي بحدودها. قال القضاعي: وكيف ما. أما إن أريد بالمصر البلد العظيم فإنه ينصرف ويجمع على أمصار. وأما تفرع الأقاليم التي حولها عنها - فعن ابن لهيعة أنه لما استقر مصر بن بيصر بهذه البلاد وهو وأبوه بيصر و وإخوته: فارق وماح وياح وكثر أولادهم قال له إخوته: قد علمت أنك أكبرنا وأفضلنا وإن هذه الأرض أسكنك إياها جدك نوح ونحن نضيق عليك أرضك ونحن نطلب إليك بالبركة التي جعلك فيها جدك نوح أن تبارك لنا في أرض نلحق بها ونسكنها وتكون لنا ولأولادنا فقال: نعم عليكم بأقرب البلاد إلي لا تباعدوا مني فإن لي في بلادي هذه مسيرة شهر من أربعة وجوه أحوزها لنفسي وتكون لي ولولدي وأولادهم. فحاز مصر لنفسه ما بين الشجرتين اللتين بالعريش إلى أسوان طولاً ومن برقة إلى أيلة عرضاً. وحاز فارق لنفسه ما بين برقة إلى إفريقية فكان ولده الأفارقة وبذلك سميت إفريقية وذلك مسيرة شهر. وحاز ماح ما بين الشجرتين من منتهى حد مصر إلى الجزيرة مسيرة شهر وهو أبو نبط الشام وحاز ياح ما وراء الجزيرة كلها من البحر إلى الشرق مسيرة شهر فهو أبو نبط العراق. وقد قال القضاعي بعد ذكر حدود مصر الأربعة: وما كان بعد هذا من الجانب الغربي فهو من فتوح أهل مصر وثغورهم من برقة إلى الأندلس. قلت: وذلك أن المسلمين بعد فتح مصر توجهت طائفة منهم إلى إفريقية ففتحها ثم توجهت طائفة من إفريقية إلى الأندلس ففتحته على ما سيأتي ذكره في الكلام على مكاتبات ملوك الغرب إن شاء الله تعالى.
|